-->

دور الوراثة في التوحد

دور الوراثة في التوحد - 2

دور الوراثة في التوحد

على مدار خمسين عامًا الماضية، عرف تاريخ التوحد الكثير من المحاججة العلمية حول أسبابه الأساسية وعلاجاته - وفي كثير من الأحيان - كان علم الوراثة عنصرا مهما في هذه الحجج.

في الوقت الذي يعد من المقبول عمومًا أن تلعب الجينات دورًا رئيسيًا وربما الدور الرئيسي الأبرز في التوحد، إلا أننا لا نعرف بعدُ حجمَ هذا الدور. إنه سؤال مهم بالنسبة لنا لأن له آثارًا مباشرة فيما يتعلق بالوقاية وكذلك بالتدخل. في هذا المقال، نلقي نظرة على التطور الذي وصلنا إليه في فهم التأثيرات الجينية على التوحد إضافة إلى كل ما نحن بحاجة إلى تعلمه.

اقرأ أيضاً: الواقع الافتراضي يعالج رهاب التوحد

علم الوراثة: أول مناقشة جينية كبرى حول اضطرابات طيف التوحد

كان الدكتور "برنارد ريملاند" أول شخص نشر الرأي القائل بأن الجينات تلعب دورًا مهمًا في اضطرابات طيف التوحد (ASD). في كتابه الرئيسي الذي صدر سنة 1964، "التوحد الطفولي: المتلازمة وآثارها على النظرية العصبية للسلوك"، قام بمفرده بفضح النظرية الشائعة آنذاك التي تلقي باللوم على الإهمال العاطفي من قبل الوالدين، وجادل بشكل مقنع بأن التوحد له جذور بيولوجية في الأساس. وقد افترض أن علم الأعصاب والعوامل البيئية من المحتمل أن تساهم في التوحد إلى جانب علم الوراثة.

بعد حوالي اثني عشر عامًا، نشر "فولشتاين وروتر" (1977) أولى بيانات مُقْنِعة لدعم المكون الجيني للتوحد. كـعنوان رئيسي، أبلغوا عن ارتفاع معدل انتشار مرض التوحد في أحد عشر توأماً أحادي اللاقحة (zygote، الذين لديهم تداخل وراثي بنسبة 100 ٪) مقارنة بمعدل أقل بكثير في عشر توائم ثنائية اللاقحة (الذين لديهم أساسًا تداخل وراثي بنسبة 50 ٪).

النقاشات الحالية حول دور الوراثة في مرض التوحد

حالياً، ما يقرب من عشرين بالمائة من الأفراد المصابين بالتوحد يعانون من متلازمة وراثية مرتبطة بالتوحد. غالبًا ما يُشار إلى هؤلاء الأفراد على أنهم مصابون "بالتوحد المتلازمي". تشمل المتلازمات المرتبطة بالتوحد متلازمات أنجلمان (Angelman) و فراجيل اكس (Fragile X) و لوندو-كليفنر (Landau-Kleffner) و ريت (Rett) بالإضافة إلى المتلازمات الأقل شيوعًا التي تسببها طفرات أخرى.

دور الوراثة في التوحد
 

لا نعرف حتى الآن الدور الذي تلعبه الجينات لـ ثمانين بالمائة المتبقية من الأفراد المصابين بالتوحد. قد يكون لديهم متلازمات وراثية لم يتم تحديدها بعد؛ وقد يكون لديهم متلازمة طيف التوحد بسبب التفاعل الجيني البيئي؛ أو بسبب شيء لا علاقة له تمامًا بتركيبهم الجيني.

قد يهمك: مساعدة الطلاب المصابين بالتوحد على التحول إلى التعلم عبر الانترنت

يحظى الجدل الدائر حول الدور الدقيق للوراثة في التوحد باهتمام إعلامي كبير. تم الإبلاغ عن أكثر من مائة جينة مرتبطة بالتوحد خلال العقدين الماضيين، ولكن لا يوجد حتى الآن "جين التوحد" الأساسي أو مجموعة "جينات التوحد" التي تحدد باحتمالية عالية ما إذا كان الفرد سيكون في طيف التوحد.

هناك أيضًا نقاش كبير حول دور السموم البيئية وكيفية تفاعلها مع التعبير الجيني. تقول إحدى النظريات أن عددًا صغيرًا نسبيًا من الأشخاص معرضون وراثيًا لمستويات منخفضة نسبيًا من المواد السامة الشائعة الآن في البيئة. وتجدر الإشارة إلى أن العديد من الدراسات البحثية قد أبلغت عن زيادة مخاطر الإصابة بالتوحد بالقرب من الطرق السريعة ذات المستويات العالية من الجسيمات (التي تشمل الأمونيا، والكربون الأسود، والغبار المعدني، والنترات، وكلوريد الصوديوم، والكبريتات)، وكذلك بالقرب من الحقول التي تم رشها بالمبيدات الحشرية. يمكن أن تسبب هذه السموم ضررًا للجهاز العصبي أو اللاإرادي أو التمثيل الغذائي أو الجهاز المناعي (أو أنظمة متعددة) لدى الأفراد المعرضين للخطر وراثيًا، مما يزيد من خطر الإصابة بالتوحد.

النظرية ذات الصلة بالموضوع هي أن بعض الأفراد المصابين بالتوحد لديهم استعداد وراثي لنقص غذائي معين يجعلهم أكثر عرضة للإصابة بالتوحد. على سبيل المثال، هناك دليل على أن عددًا من الأطفال المصابين بالتوحد يعانون من صعوبة في استقلاب حمض الفوليك ويمكنهم الاستفادة بشكل كبير من تناول المكملات على شكل حمض الفولينيك.

إذا كان هناك ارتباط جيني بيئي، فقد يساعد في تفسير الزيادة الهائلة في انتشار مرض التوحد على مدار الخمسين عامًا الماضية. في أوائل السبعينيات، تم تشخيص التوحد في حوالي واحد من كل ألفي طفل. اليوم، العدد هو حوالي واحد من أربعة وخمسين. وعلى الرغم من أن التشخيص قد تحسن بشكل كبير، فإن هذا وحده لا يمكن أن يفسر مثل هذا الارتفاع الحاد في الحالات.

دور الوراثة في التوحد -1

نظرًا لأهمية فهم علم الوراثة والبيئة، قد يعتقد المرء أنه سيكون هناك عدد لا يحصى من الدراسات التي تحقق في كليهما في وقت واحد مع نفس الأفراد. لسوء الحظ، استَخدَمتِ القليلُ من الدراسات في كل حقل فرعي هذا النهج العلمي، وكانت نتائج هذه الدراسات مختلطة. هذا على الأرجح بسبب قيام الباحثين بالتحقيق في مجموعة واسعة من الأفراد المصابين بالتوحد، وهو نهج من غير المحتمل أن يؤدي إلى بيانات متسقة. علاوة على ذلك، يبني العديد من هؤلاء الباحثين استنتاجاتهم على التحليلات الارتباطية. لكن من الناحية العلمية، لا يمكن لمثل هذه التحليلات أن تثبت علاقة السبب والنتيجة.

أفضل طريقة لحل هذه المشكلة المهمة هي إجراء دراسات تجريبية معقدة نسبيًا من خلال استخدام أدوات قياس صالحة لتقييم العوامل الوراثية والبيئية بشكل صحيح لدى نفس الأفراد. من المهم أيضًا متابعة الدراسات الارتباطية بتجارب مضبوطة علميًا.

ما يمكننا القيام به أثناء بحثنا عن إجابات حول دور الوراثة في التوحد أو في تفاقمه

من الواضح أن الأمر سيستغرق وقتًا حتى نحدد الدور الذي تلعبه الجينات في التسبب في التوحد أو تفاقمه. و من المؤكد، لن تكون الإجابات بسيطة، لأن الجينات المختلفة والعوامل البيئية المختلفة ستلعب دورًا في الأشخاص المختلفين. لحسن الحظ، هناك خطوات يمكننا اتخاذها الآن لمساعدة الأفراد المصابين بالتوحد - خاصة إذا كانت أعراضهم قد تنجم كليًا أو جزئيًا عن الضعف الجيني. على وجه الخصوص، هناك أربع مجالات يمكننا تركيز جهودنا فيها:

التغذية

أصبح من الجلي أن العديد من الأفراد المصابين بالتوحد يعانون من نقص غذائي، وأن بعضًا منها قد يكون ناتجًا عن نقاط ضعف وراثية أو تفاقمها (على سبيل المثال ، عيوب في استقلاب حمض الفوليك أو فيتامين ب اثنا عشر). يمكن أن يساعد الاختبار المتعمق للأفراد المصابين بالتوحد في الكشف عن أي نقص غذائي موجود ويسمح لنا بمعالجتها بفعالية - سواء كانت الأسباب وراثية أم لا.

دور الوراثة في التوحد - التغذية

السموم

إن تقليل عبء السموم لدى الأفراد المصابين بالتوحد سيفيدهم جميعًا، ولكن بشكل خاص أولئك الذين لديهم نقاط ضعف وراثية تجعلهم أكثر عرضة للتلف من هذه السموم. بالإضافة إلى معالجة المصادر الرئيسية للتلوث على مستوى الحكومات والصناعة، يمكننا اتخاذ إجراءات شخصية من خلال تقليل استخدام المواد الكيميائية السامة في منازلنا.

تحسين الميكروبيوم

لدى الكثير من الأشخاص - وليس فقط المصابين بالتوحد - نقاط ضعف وراثية يمكن أن تؤثر على ميكروبيومات الأمعاء بطرق تهيئهم للإصابة بالأمراض. وفي الوقت الذي ما زلنا لا نفهم بعدُ الدورَ الذي تلعبه الجينات في هذا المجال، فإن الأبحاث الرائدة تشير إلى أن التغييرات الغذائية، والتدخلات الأخرى يمكن أن تساعد في تطبيع ميكروبات الأمعاء لدى الأفراد المصابين بالتوحد وخلل باكتيريا الأمعاء.

التدخل المبكر

التشوهات الجينية قد تكمن وراء السلوكيات ومشاكل التعلم للعديد من الأفراد المصابين بالتوحد، ونعلم الآن أن التدخل المبكر يمكن أن يفيد الأطفال المصابين بالتوحد بشكل كبير بغض النظر عن السبب.

في النهاية، أمامنا طريق طويل لنقطعه قبل أن نفهم تمامًا كيف تؤثر الجينات على التوحد. لكن لدينا أدوات قوية يمكننا استخدامها الآن لمساعدة العديد من الأفراد في الطيف على النمو والتفوق - بغض النظر عن مكامن جذور التوحد لديهم.